من تلميحات التيسير إلى لهجة الحذر… والذهب بين ضغط السياسة النقدية وتحسن الأجواء التجارية بين واشنطن وبكين
في وقتٍ تُحاول فيه الأسواق العالمية استيعاب تحوّلات السياسة النقدية الأميركية، جاء قرار الاحتياطي الفيدرالي الأخير ليُربك التوقعات ويُعيد خلط الأوراق، خصوصاً بعد أن خفّض سعر الفائدة بواقع 25 نقطة أساس، ثم تبعه خطابٌ أكثر تحفظاً من رئيسه جيروم باول، مخالفاً نسبياً للنبرة التي سبقت القرار والتي كانت توحي بانفتاحٍ أكبر على التيسير النقدي.
من الانفتاح إلى الحذر
في الأشهر الماضية، أشار باول في أكثر من مناسبة إلى أن تباطؤ النمو وتراجع زخم سوق العمل قد يدفع الفيدرالي إلى إعادة النظر في سياسته المتشددة. هذه التصريحات فسّرها المستثمرون على أنها مقدمة لمرحلةٍ جديدة من خفض الفائدة وربما تبنّي نهجٍ أكثر مرونة.
لكنّ الخطاب الأخير كان مختلفاً؛ إذ ركّز على أن البنك المركزي “سيراقب البيانات الواردة بعناية” وأنه “سيكون مستعداً لتعديل السياسة عند الضرورة”. هذا التحوّل في اللهجة أوحى بأنّ الخفض الأخير قد لا يكون بداية دورة تيسير طويلة، بل خطوة محدودة الهدف.
هذه الإشارات المتناقضة جعلت الأسواق في حالة ترقّب شديدة، فهي تواجه صعوبة في استقراء المسار القادم للسياسة النقدية، وتجد نفسها أمام خليط من الرسائل التي تجمع بين القلق والاحتراز.
توازن دقيق بين التضخم والتوظيف
ما يواجهه الفيدرالي اليوم هو معضلة كلاسيكية: كيف يوازن بين محاربة التضخم وحماية سوق العمل. فبينما تُظهر بعض المؤشرات تباطؤاً في النشاط الاقتصادي، لا تزال معدلات التضخم أعلى من المستوى المستهدف عند 2%. ومع غياب بيانات واضحة بسبب تأجيل بعض الإصدارات الرسمية، أصبحت قرارات السياسة النقدية أكثر اعتماداً على “الإحساس بالسوق” لا على البيانات الكاملة.
وهذا ما يفسّر ارتباك المستثمرين، الذين وجدوا أنفسهم بين توقعات بمزيد من الخفض في الفائدة من جهة، واحتمال توقف دورة التيسير مبكراً من جهة أخرى.
انعكاس القرار على الذهب
الذهب، الذي يُعتبر المرآة الحساسة لتوجهات السياسة النقدية، شهد تذبذباً حاداً بعد القرار. فعادةً ما يؤدي خفض الفائدة إلى دعم أسعار الذهب بسبب تراجع العوائد على الدولار والسندات، لكنّ التراجع في النبرة التيسيرية للفيدرالي أحدث أثراً عكسياً جزئياً.
فقد تراجع الذهب دون مستوى 4,000 دولار للأونصة، متأثراً بعودة الثقة النسبية في الاقتصاد الأميركي وتحسّن شهية المخاطرة لدى المستثمرين. كما أن الآمال المتزايدة بالتوصل إلى شبه اتفاق تجاري بين الصين والولايات المتحدة أضافت مزيداً من الضغط على الذهب، بعدما خفّضت المخاوف الجيوسياسية التي عادةً ما تغذّي الطلب على الملاذات الآمنة.
اتفاق تجاري محتمل وضغوط مزدوجة
التقارب الأميركي–الصيني، الذي يتبلور في شكل تفاهمات مبدئية حول الرسوم الجمركية والتجارة التكنولوجية، خفّف من توتراتٍ كانت تُثقل الأسواق منذ أعوام. هذا التطور، إلى جانب خفض الفائدة المحدود، خلق مزيجاً غريباً من التفاؤل الحذر: الأسواق ترى فرصاً للنمو، لكنها لا تزال متوجسة من الخطوة التالية للفيدرالي.
بالنسبة للذهب، فإن هذا المزيج يخلق بيئة غير مستقرة؛ فكل تحسّن في العلاقات التجارية يضغط على الأسعار، وكل تلميح نحو مزيد من الحذر أو التباطؤ يعيد إليها بعض الدعم. إنها لعبة توازن دقيقة بين السياسة النقدية والسياسة التجارية العالمية.
رؤية عامة للأسواق العالمية
في المشهد الأشمل، يمكن القول إننا أمام مرحلة “إعادة تقييم كبرى” للمخاطر في النظام المالي العالمي. لم تعد الإشارات الصادرة من البنوك المركزية واضحة كما في السابق، ولم تعد الحروب التجارية أو السياسية العامل الوحيد الذي يحرك الأسواق. بل إن الأسواق اليوم تتعامل مع مزيجٍ معقّد من الرسائل المتناقضة:
سياسات نقدية حذرة لكنها غير محسومة.
تعافٍ تجاري محتمل لكنه هشّ.
وتذبذبٍ في ثقة المستثمرين بين الأمان والمخاطرة.
في مثل هذا المناخ، يصبح الذهب ـ كما هو دائماً ـ مقياساً لنبض القلق العالمي. فعندما ترتفع الضبابية يعود الطلب عليه بقوة، وحين تسود الثقة يترك المستثمرون الملاذ الآمن وراءهم.
:
وبالختام
الأسواق اليوم لا تبحث فقط عن قرار الفيدرالي المقبل، بل عن اتجاهٍ واضح في السياسة الاقتصادية العالمية. وبين لهجة الحذر الأميركية وبوادر الانفراج التجاري مع الصين، يبقى السؤال الأهم: هل تعود الثقة تدريجياً إلى الأسواق؟ أم أن هذا الهدوء مجرد استراحة قبل عاصفة جديدة؟
الجواب، كما يبدو، سيُحدده إيقاع البيانات الاقتصادية المقبلة، ونبرة باول في خطابه القادم.

